بقلم: د. إبراهيم وحيد شحاتة
مدير تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة
استشاري التمويل المستدام ومدرب معتمد للتنمية المستدامة
يمثّل الاقتصاد غير الرسمي في مصر تحديًا مزدوجًا أمام صُنّاع القرار الاقتصادي؛ فهو من ناحية مصدر رزق لملايين المصريين، ومن ناحية أخرى أحد أسباب اتساع الفجوة بين الناتج الحقيقي والإيرادات الرسمية للدولة.
ورغم ضخامة هذا القطاع—الذي يُقدَّر بأنه يضم ما يزيد على 50% من قوة العمل المصرية—إلا أن إدماجه في الاقتصاد الرسمي لا يتحقق بالقرارات الإدارية وحدها، بل من خلال أطر تمويلية وتنظيمية ذكية تُحوِّل الدمج من عبء بيروقراطي إلى فرصة للنمو والتطوير.
التحول من “التقنين” إلى “التمكين”
تُظهر الخبرات الدولية أنّ الانتقال من الاقتصاد غير الرسمي إلى الرسمي لا يبدأ بالعقوبات، بل بالحوافز والتسهيلات.
ففي البرازيل مثلًا، أدى تطبيق نظام “سيمبلِس ناسيونال” الضريبي إلى زيادة تسجيل المنشآت الصغيرة عبر ضريبة مبسطة موحدة ومعاملة مالية مرنة.
وفي الهند، ساهم ربط الهوية الرقمية بأنظمة المدفوعات والفواتير الإلكترونية في طفرة هائلة بالشمول المالي.
أما في بيرو والمكسيك، فقد تحوّلت الفاتورة الإلكترونية إلى أداة تمويل قصير الأجل للشركات الصغيرة، ما شجعها على التسجيل الضريبي طوعًا.
الرسالة الأوضح من هذه التجارب: الرسمية تتحقق حين تصبح مربحة وسهلة، لا حين تكون مُرهقة أو مكلفة.
مصر على الطريق: بنية تشريعية ورقمية متكاملة
خلال السنوات الأخيرة، طوّرت مصر منظومة تشريعية ومصرفية متكاملة تُسهِّل دمج الاقتصاد غير الرسمي ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة.
ومن أبرز ركائزها:
1. قانون تنمية المشروعات رقم 152 لسنة 2020 الذي وفّر حوافز ضريبية وتراخيص مبسطة لتقليل كلفة التحول إلى الرسمية.
2. توجيهات البنك المركزي المصري بإلزام البنوك بتخصيص 25% من محافظها الائتمانية لتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، مع نسبة لا تقل عن 10% للمشروعات الصغيرة.
3. منظومة الفاتورة والإيصال الإلكترونيين التي أطلقتها مصلحة الضرائب، مما أوجد قاعدة بيانات مالية دقيقة تُسهم في تقييم الجدارة الائتمانية للمشروعات.
4. سجلّ الضمانات المنقولة، الذي أتاح استخدام الأصول المنقولة كضمانات تمويلية دون الحاجة إلى ملكية عقارية.
5. البنية الرقمية الوطنية للمدفوعات (Meeza – InstaPay – IPN)، التي سهّلت الدمج المالي والرقمي للعاملين بالقطاع غير الرسمي.
تلك المنظومة تُعد الأساس لتطبيق نموذج “التمويل القائم على البيانات”، حيث يُقيَّم المشروع بناءً على تدفقاته الفعلية لا أوراقه أو حجمه فقط.
من التمويل إلى التقييم الذكي
الاتجاه الحديث في تمويل المشروعات الصغيرة يقوم على تحليل البيانات التشغيلية والسلوك المالي بدلًا من الضمانات التقليدية.
وفي ضوء الرقمنة المصرية—وخاصة الفواتير والمدفوعات الإلكترونية—يمكن تطوير نظام تصنيف ائتماني وطني للمشروعات الصغيرة يعتمد على التاريخ المالي الفعلي.
وبهذا تنتقل البنوك من مرحلة “منح القرض” إلى مرحلة “تحليل النشاط”، ما يزيد كفاءة التمويل ويقلل المخاطر.
إنّ بناء نموذج تمويل قائم على البيانات التشغيلية هو ما سيُحدث النقلة الكبرى في قدرة القطاع المصرفي على تمويل الاقتصاد الحقيقي بفعالية وعدالة.
دور البنوك المصرية في التمويل والإدماج
تُعد البنوك المصرية ركيزة أساسية في استراتيجية دمج الاقتصاد غير الرسمي، من خلال مبادرات واقعية تتخطى الجانب النظري.
فقد أطلق البنك الأهلي المصري وحدات تمويل متخصصة للمشروعات متناهية الصغر، ووسّع خدماته ضمن مبادرة “حياة كريمة” في القرى، مركّزًا على الإدماج المالي للنساء والشباب.
كما وفّر بنك مصر برامج تمويل رقمية لروّاد الأعمال مع تبسيط الإجراءات بالتعاون مع جهاز تنمية المشروعات.
أما بنك القاهرة فاعتمد مبادرة “فرصة” لتمويل الشباب والمشروعات الصغيرة في المناطق الأقل حظًا.
وأطلق البنك التجاري الدولي (CIB) مركزًا لتثقيف العملاء حول الإدارة المالية للمشروعات الصغيرة، بينما أسس بنك الإسكندرية شراكات مع “حياة كريمة” لتوفير تمويلات وبطاقات “ميزة” مجانية في صعيد مصر.
هذه المبادرات لم تعد مجرد تمويل نقدي، بل تمكين تنموي يهدف إلى بناء عميل أكثر وعيًا وقدرة على الاستمرار في السوق الرسمي.
دور شركات وجمعيات التمويل والإقراض في السوق المصري
لا يقتصر تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة على البنوك وحدها؛ إذ تلعب شركات وجمعيات التمويل والإقراض دورًا محوريًا في سد فجوة التمويل وتحقيق الشمول المالي المتكامل.
1. شركات التمويل متناهي الصغر (Microfinance Companies)
تعمل تحت إشراف الهيئة العامة للرقابة المالية، وتستهدف أصحاب الأنشطة الصغيرة غير الرسمية، مثل الورش والتجارة والخدمات.
أبرز هذه الشركات: تنمية، ريفي، أمان، خبير، تمويلي، وبداية، وقد تجاوز عدد المستفيدين من نشاط التمويل متناهي الصغر في مصر 5.5 مليون عميل بإجمالي محفظة تتخطى 70 مليار جنيه بنهاية 2024.
2. جمعيات التمويل الأهلي والجمعيات التنموية
مثل: الجمعية المصرية لتنمية الأعمال، وجمعيات “الهيئة القبطية للخدمات الاجتماعية”، و“الفرص الجديدة”، و“نحو تمويل مستدام”، وهي تدمج التمويل مع التدريب وبناء القدرات.
3. شركات التمويل الاستهلاكي وتمويل رأس المال العامل
رغم تركيزها الأساسي على الأفراد، فإنّ توسعها نحو تمويل الموردين والتجار الصغار يساهم في دعم دورة رأس المال العامل للمشروعات الصغيرة.
4. شركات التمويل العقاري وتمويل الأصول الإنتاجية
بدأت بعض شركات التمويل العقاري والصناعي في تقديم منتجات تستهدف تمويل الأصول الإنتاجية للمشروعات الصغيرة (ماكينات، مخازن، منافذ بيع)، ما يعزز القدرة التشغيلية لتلك المشروعات ويدعم تحولها للرسمية.
إنّ هذا التنوع المؤسسي بين البنوك، والشركات، والجمعيات يُشكّل منظومة متكاملة للتمويل الشامل، حيث يتقاطع دور كل جهة مع الأخرى لتغطية جميع شرائح السوق، بدءًا من المشروعات الفردية غير
